فصل: من لطائف وفوائد المفسرين:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وقوله تعالى: {ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ} مَعَ أَنَّهُ لَا خَيْرَ فِي تَرْكِ الْجِهَادِ قِيلَ فِيهِ وَجْهَانِ: أَحَدِهِمَا:
خَيْرٌ مِنْ تَرْكِهِ إلَى الْمُبَاحِ فِي الْحَالِ الَّتِي لَا يَتَعَيَّنُ عَلَيْهِ فَرْضُ الْجِهَادِ، وَالْآخَرِ: أَنَّ الْخَيْرَ فِيهِ لَا فِي تَرْكِهِ.
وَقَوْلُهُ: {إنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} قِيلَ فِيهِ: إنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ الْخَيْرَ فِي الْجُمْلَةِ فَاعْلَمُوا أَنَّ هَذَا خَيْرٌ، وَقِيلَ: إنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ صِدْقَ اللَّهِ فِيمَا وَعَدَ بِهِ مِنْ ثَوَابِهِ وَجَنَّتِهِ.
قوله تعالى: {وَسَيَحْلِفُونَ بِاَللَّهِ لَوْ اسْتَطَعْنَا لَخَرَجْنَا مَعَكُمْ} الْآيَةَ.
لَمَّا أَكْذَبَهُمْ اللَّهُ فِي قَوْلِهِ: {لَوْ اسْتَطَعْنَا لَخَرَجْنَا مَعَكُمْ} دَلَّ عَلَى أَنَّهُمْ كَانُوا مُسْتَطِيعِينَ، وَلَمْ يَخْرُجُوا، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى بُطْلَانِ مَذْهَبِ الْجَبْرِ فِي أَنَّ الْمُكَلَّفِينَ غَيْرُ مُسْتَطِيعِينَ لِمَا كُلِّفُوا فِي حَالِ التَّكْلِيفِ قَبْلَ وُقُوعِ الْفِعْلِ مِنْهُمْ؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَدْ أَكْذَبَهُمْ فِي نَفْيِهِمْ الِاسْتِطَاعَةَ عَنْ أَنْفُسِهِمْ قَبْلَ الْخُرُوجِ.
وَفِيهِ دَلَالَةٌ عَلَى صِحَّةِ نُبُوَّةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ لِأَنَّهُ أَخْبَرَ أَنَّهُمْ سَيَحْلِفُونَ، فَجَاءُوا فَحَلَفُوا كَمَا أَخْبَرَ أَنَّهُ سَيَكُونُ مِنْهُمْ.
قوله تعالى: {عَفَا اللَّهُ عَنْك لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُوا}.
الْعَفْوُ يَنْصَرِفُ عَلَى وُجُوهٍ: أَحَدِهَا: التَّسْهِيلُ وَالتَّوْسِعَةُ، كَقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَوَّلُ الْوَقْتِ رِضْوَانُ اللَّهِ وَآخِرُهُ عَفْوُ اللَّهِ».
وَالْعَفْوُ التَّرْكُ، كَقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَحْفُوا الشَّوَارِبَ وَأَعْفُوا اللِّحَى» وَالْعَفْوُ الْكَثْرَةُ، كَقوله تعالى: {حَتَّى عَفَوْا} يَعْنِي: كَثُرُوا، وَأَعْفَيْت فُلَانًا مِنْ كَذَا وَكَذَا إذَا سَهَّلْت لَهُ تَرْكَهُ، وَالْعَفْوُ الصَّفْحُ عَنْ الذَّنْبِ، وَهُوَ إعْفَاؤُهُ مِنْ تَبِعَتِهِ وَتَرْكِ الْعِقَابِ عَلَيْهِ، وَهُوَ مِثْلُ الْغُفْرَانِ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ، وَجَائِزٌ أَنْ يَكُونَ أَصْلُهُ التَّسْهِيلَ، فَإِذَا عَفَا عَنْ ذَنْبِهِ فَلَمْ يَسْتَقْصِ عَلَيْهِ، وَسَهَّلَ عَلَيْهِ الْأَمْرَ، وَكَذَلِكَ سَائِرُ الْوُجُوهِ الَّتِي تَنْصَرِفُ عَلَيْهَا هَذِهِ الْكَلِمَةُ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ أَصْلُهَا التَّرْكَ وَالتَّوْسِعَةَ.
وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ: إنَّهُ قَدْ كَانَ مِنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَنْبٌ صَغِيرٌ فِي إذْنِهِ لَهُمْ، وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: {عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ} إذْ لَا يَجُوزُ أَنْ تَقُولَ لِمَ فَعَلْت مَا جَعَلْت لَك فِعْلَهُ؟ كَمَا لَا يَجُوزُ أَنْ تَقُولَ لِمَ فَعَلْت مَا أَمَرْتُك بِفِعْلِهِ؟ قَالُوا: فَغَيْرُ جَائِزٍ إطْلَاقُ الْعَفْوِ عَمَّا قَدْ جَعَلَ لَهُ فِعْلَهُ، كَمَا لَا يَجُوزُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُ مَا أَمَرَهُ بِهِ.
وَقِيلَ: إنَّهُ جَائِزٌ أَنْ لَا تَكُونَ مِنْهُ مَعْصِيَةٌ فِي الْإِذْنِ لَهُمْ لَا صَغِيرَةٌ وَلَا كَبِيرَةٌ، وَإِنَّمَا عَاتَبَهُ بِأَنْ قَالَ: لِمَ فَعَلْت مَا جَعَلْت لَك فِعْلَهُ مِمَّا غَيْرُهُ أَوْلَى مِنْهُ؟ إذْ جَائِزٌ أَنْ يَكُونَ مُخَيَّرًا بَيْنَ فِعْلَيْنِ، وَأَحَدُهُمَا أَوْلَى مِنْ الْآخَرِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُنَاحٌ أَنْ يَضَعْنَ ثِيَابَهُنَّ غَيْرَ مُتَبَرِّجَاتٍ بِزِينَةٍ وَأَنْ يَسْتَعْفِفْنَ خَيْرٌ لَهُنَّ} فَأَبَاحَ الْأَمْرَيْنِ وَجَعَلَ أَحَدَهُمَا أَوْلَى، وَقَدْ رَوَى شُعْبَةُ عَنْ قَتَادَةَ فِي قَوْلِهِ: {عَفَا اللَّهُ عَنْك لِمَ أَذِنْت لَهُمْ}: كَانَتْ كَمَا تَسْمَعُونَ ثُمَّ أَنْزَلَ اللَّهُ فِي سُورَةِ النُّورِ: {وَإِذَا كَانُوا مَعَهُ عَلَى أَمْرٍ جَامِعٍ لَمْ يَذْهَبُوا حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ} إلَى قَوْلِهِ: {فَأْذَنْ لِمَنْ شِئْتَ مِنْهُمْ} فَجَعَلَهُ اللَّهُ تَعَالَى رُخْصَةً فِي ذَلِكَ.
وَرَوَى عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَلْحَةَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: {إنَّمَا يَسْتَأْذِنُك الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاَللَّهِ} إلَى قَوْلِهِ: {يَتَرَدَّدُونَ}: هَذَا بِعَيْنِهِ لِلْمُنَافِقِينَ حِينَ اسْتَأْذَنُوهُ لِلْقُعُودِ عَنْ الْجِهَادِ مِنْ غَيْرِ عُذْرٍ، وَعَذَرَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ فَقَالَ: {وَإِذَا كَانُوا مَعَهُ عَلَى أَمْرٍ جَامِعٍ لَمْ يَذْهَبُوا حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ}.
وَرَوَى عَطَاءٌ الْخُرَاسَانِيُّ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَوْلَهُ: {إنَّمَا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاَللَّهِ} قَالَ: نَسَخَهَا قَوْلُهُ: {وَإِذَا كَانُوا مَعَهُ عَلَى أَمْرٍ جَامِعٍ لَمْ يَذْهَبُوا حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ} إلَى قَوْلِهِ: {فَأْذَنْ لِمَنْ شِئْت مِنْهُمْ} فَجَعَلَ اللَّهُ تَعَالَى رَسُولَهُ بِأَعْلَى النَّظَرَيْنِ.
قَالَ أَبُو بَكْرٍ جَائِزٌ أَنْ يَكُونَ قوله تعالى: {عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْت لَهُمْ} فِي قَوْمٍ مِنْ الْمُنَافِقِينَ لَحِقَتْهُمْ تُهْمَةٌ، فَكَانَ يُمْكِنُ النَّبِيَّ اسْتِبْرَاءُ أَمْرِهِمْ بِتَرْكِ الْإِذْنِ لَهُمْ، فَيَظْهَرُ نِفَاقُهُمْ إذَا لَمْ يَخْرُجُوا بَعْدَ الْأَمْرِ بِالْخُرُوجِ، وَيَكُونُ ذَلِكَ حُكْمًا ثَابِتًا فِي أُولَئِكَ.
وَيَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ: {حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَك الَّذِينَ صَدَقُوا وَتَعْلَمَ الْكَاذِبِينَ} وَيَكُونُ قَوْلُهُ: {وَإِذَا كَانُوا مَعَهُ عَلَى أَمْرٍ جَامِعٍ لَمْ يَذْهَبُوا حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ} وَقَوْلُهُ: {فَأْذَنْ لِمَنْ شِئْت مِنْهُمْ} فِي الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ لَوْ لَمْ يَأْذَنْ لَهُمْ لَمْ يَذْهَبُوا، فَلَا تَكُونُ إحْدَى الْآيَتَيْنِ نَاسِخَةً لِلْأُخْرَى.
قوله تعالى: {لَا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاَللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ} إلَى قَوْلِهِ: {بِأَمْوَالِهِمْ} الْآيَةَ.
يَعْنِي: لَا يَسْتَأْذِنُك الْمُؤْمِنُونَ فِي التَّخَلُّفِ عَنْ الْجِهَادِ لَأَنْ لَا يُجَاهِدُوا وَأَضْمَرَ {لَا} فِي قَوْلِهِ: {أَنْ يُجَاهِدُوا} لِدَلَالَةِ الْكَلَامِ عَلَيْهِ، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الِاسْتِئْذَانَ فِي التَّخَلُّفِ كَانَ مَحْظُورًا عَلَيْهِمْ، وَيَدُلُّ عَلَى صِحَّةِ تَأْوِيلِ قَوْلِهِ: {عَفَا اللَّهُ عَنْك} عَلَى أَنَّهُ عَفْوٌ عَنْ ذَنْبٍ، وَإِنْ كَانَ صَغِيرًا، وَرُوِيَ عَنْ الْحَسَنِ فِي قَوْلِهِ: {أَنْ يُجَاهِدُوا} أَنَّهُ عَلَى تَقْدِيرِ كَرَاهَةِ أَنْ يُجَاهِدُوا، وَهُوَ يُؤَوَّلُ إلَى الْمَعْنَى الْأَوَّلِ لِأَنَّ إضْمَارَ {لَا} فِيهِ وَإِضْمَارَ الْكَرَاهَةِ سَوَاءٌ، وَهَذِهِ الْآيَةُ أَيْضًا تَدُلُّ عَلَى وُجُوبِ فَرْضِ الْجِهَادِ بِالْمَالِ وَالنَّفْسِ جَمِيعًا؛ لِأَنَّهُ قَالَ تَعَالَى: {أَنْ يُجَاهِدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ} فَذَمَّهُمْ عَلَى الِاسْتِئْذَانِ فِي تَرْكِ الْجِهَادِ بِهِمَا.
وَالْجِهَادُ بِالْمَالِ يَكُونُ عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدِهِمَا إنْفَاقُ الْمَالِ فِي إعْدَادِ الْكُرَاعِ وَالسِّلَاحِ وَالْآلَةِ وَالرَّاحِلَةِ وَالزَّادِ، وَمَا جَرَى مَجْرَاهُ مِمَّا يَحْتَاجُ إلَيْهِ لِنَفْسِهِ.
وَالثَّانِي إنْفَاقُ الْمَالِ عَلَى غَيْرِهِ مِمَّا يُجَاهِدُ، وَمَعُونَتُهُ بِالزَّادِ وَالْعُدَّةِ وَنَحْوِهَا.
وَالْجِهَادُ بِالنَّفْسِ عَلَى ضُرُوبٍ: مِنْهَا الْخُرُوجُ بِنَفْسِهِ، وَمُبَاشَرَةُ الْقِتَالِ، وَمِنْهَا بَيَانُ مَا افْتَرَضَ اللَّهُ مِنْ الْجِهَادِ، وَذِكْرُ الثَّوَابِ الْجَزِيلِ لِمَنْ قَامَ بِهِ، وَالْعِقَابِ لِمَنْ قَعَدَ عَنْهُ، وَمِنْهَا التَّحْرِيضُ وَالْأَمْرُ، وَمِنْهَا الْإِخْبَارُ بِعَوْرَاتِ الْعَدُوِّ، وَمَا يَعْلَمُهُ مِنْ مَكَايِدِ الْحَرْبِ وَسَدَادِ الرَّأْيِ وَإِرْشَادِ الْمُسْلِمِينَ إلَى الْأَوْلَى وَالْأَصْلَحِ فِي أَمْرِ الْحُرُوبِ، كَمَا قَالَ الْخَبَّابُ بْنُ الْمُنْذِرِ حِينَ نَزَلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِبَدْرٍ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَهَذَا رَأْيٌ رَأَيْته أَمْ وَحْيٌ؟ فَقَالَ: «بَلْ رَأْيٌ رَأَيْته» قَالَ: فَإِنِّي أَرَى أَنْ تَنْزِلَ عَلَى الْمَاءِ، وَتَجْعَلَهُ خَلْفَ ظَهْرِك، وَتُغْوِرَ الْآبَارَ الَّتِي فِي نَاحِيَةِ الْعَدُوِّ، فَفَعَلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَلِكَ، وَنَحْوَ ذَلِكَ مِنْ كُلِّ قَوْلٍ يُقَوِّي أَمْرَ الْمُسْلِمِينَ، وَيُوهِنُ أَمْرَ الْعَدُوِّ.
فَإِنْ قِيلَ: فَأَيُّ الْجِهَادَيْنِ أَفْضَلُ أَجِهَادُ النَّفْسِ وَالْمَالِ أَمْ جِهَادُ الْعِلْمِ؟ قِيلَ لَهُ: الْجِهَادُ بِالسَّيْفِ مَبْنِيٌّ عَلَى جِهَادِ الْعِلْمِ وَفُرِّعَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ غَيْرُ جَائِزٍ أَنْ يَعُدُّوا فِي جِهَادِ السَّيْفِ مَا يُوجِبُهُ الْعِلْمُ، فَجِهَادُ الْعِلْمِ أَصْلٌ وَجِهَادُ النَّفْسِ فَرْعٌ، وَالْأَصْلُ أَوْلَى بِالتَّفْضِيلِ مِنْ الْفَرْعِ.
فَإِنْ قِيلَ: تَعَلُّمُ الْعِلْمِ أَفْضَلُ أَمْ جِهَادُ الْمُشْرِكِينَ؟ قِيلَ لَهُ: إذَا خِيفَ مَعَرَّةُ الْعَدُوِّ وَإِقْدَامُهُمْ عَلَى الْمُسْلِمِينَ، وَلَمْ يَكُنْ بِإِزَائِهِ مَنْ يَدْفَعُهُ فَقَدْ تَعَيَّنَ فَرْضُ الْجِهَادِ عَلَى كُلِّ أَحَدٍ، فَالِاشْتِغَالُ فِي هَذِهِ الْحَالِ بِالْجِهَادِ أَفْضَلُ مِنْ تَعَلُّمِ الْعِلْمِ، لِأَنَّ ضَرَرَ الْعَدُوِّ إذَا وَقَعَ بِالْمُسْلِمِينَ لَمْ يُمْكِنْ تَلَافِيهِ، وَتَعَلُّمُ الْعِلْمِ مُمْكِنٌ فِي سَائِرِ الْأَحْوَالِ، وَلِأَنَّ تَعَلُّمَ الْعِلْمِ فَرْضٌ عَلَى الْكِفَايَةِ لَا عَلَى كُلِّ أَحَدٍ فِي خَاصَّةِ نَفْسِهِ، وَمَتَى لَمْ يَكُنْ بِإِزَاءِ الْعَدُوِّ مَنْ يَدْفَعُهُ عَنْ الْمُسْلِمِينَ فَقَدْ تَعَيَّنَ فَرْضُ الْجِهَادِ عَلَى كُلِّ أَحَدٍ، وَمَا كَانَ فَرْضًا مُعَيَّنًا عَلَى الْإِنْسَانِ غَيْرَ مُوَسَّعٍ عَلَيْهِ فِي التَّأْخِيرِ فَهُوَ أَوْلَى مِنْ الْفَرْضِ الَّذِي قَامَ بِهِ غَيْرُهُ، وَسَقَطَ عَنْهُ بِعَيْنِهِ، وَذَلِكَ مِثْلُ الِاشْتِغَالِ بِصَلَاةِ الظُّهْرِ فِي آخِرِ وَقْتِهَا هُوَ أَوْلَى مِنْ تَعَلُّمِ عِلْمِ الدِّينِ فِي تِلْكَ الْحَالِ إذْ كَانَ الْفَرْضُ قَدْ تَعَيَّنَ عَلَيْهِ فِي هَذَا الْوَقْتِ، فَإِنْ قَامَ بِفَرْضِ الْجِهَادِ مَنْ فِيهِ كِفَايَةٌ وَغِنًى فَقَدْ عَادَ فَرْضُ الْجِهَادِ إلَى حُكْمِ الْكِفَايَةِ كَتَعَلُّمِ الْعِلْمِ، إلَّا أَنَّ الِاشْتِغَالَ بِالْعِلْمِ فِي هَذِهِ الْحَالِ أَوْلَى، وَأَفْضَلُ مِنْ الْجِهَادِ لِمَا قَدَّمْنَا مِنْ عُلُوِّ مَرْتَبَةِ الْعِلْمِ، عَلَى مَرْتَبَةِ الْجِهَادِ، فَإِنَّ ثَبَاتَ الْجِهَادِ بِثَبَاتِ الْعِلْمِ وَإِنَّهُ فَرْعٌ لَهُ وَمَبْنِيٌّ عَلَيْهِ.
فَإِنْ قِيلَ: هَلْ يَجُوزُ الْجِهَادُ مَعَ الْفُسَّاقِ؟ قِيلَ لَهُ: إنَّ كُلَّ أَحَدٍ مِنْ الْمُجَاهِدِينَ فَإِنَّمَا يَقُومُ بِفَرْضِ نَفْسِهِ، فَجَائِزٌ لَهُ أَنْ يُجَاهِدَ الْكُفَّارَ، وَإِنْ كَانَ أَمِيرُ الْجَيْشِ وَجُنُودُهُ فَاسِقًا، وَقَدْ كَانَ أَصْحَابُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَغْزُونَ بَعْدَ الْخُلَفَاءِ الْأَرْبَعَةِ مَعَ الْأُمَرَاءِ الْفُسَّاقِ،، وَغَزَا أَبُو أَيُّوبَ الْأَنْصَارِيُّ مَعَ يَزِيدَ اللَّعِينِ، وَقَدْ ذَكَرْنَنِ حَدِيثَ أَبِي أَيُّوبَ أَنَّهُ لَمْ يَتَخَلَّفْ عَنْ غَزَاةٍ لِلْمُسْلِمِينَ إلَّا عَامًا وَاحِدًا فَإِنَّهُ اُسْتُعْمِلَ عَلَى الْجَيْشِ رَجُلٌ شَابٌّ ثُمَّ قَالَ بَعْدَ ذَلِكَ: وَمَا عَلَيَّ مَنْ اُسْتُعْمِلَ عَلَيَّ؟ فَكَانَ يَقُولُ: قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {انْفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالًا} فَلَا أَجِدُنِي إلَّا خَفِيفًا أَوْ ثَقِيلًا فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الْجِهَادَ وَاجِبٌ مَعَ الْفُسَّاقِ كَوُجُوبِهِ مَعَ الْعُدُولِ، وَسَائِرُ الْآيِ الْمُوجِبَةِ لِفَرْضِ الْجِهَادِ لَمْ يُفَرِّقْ بَيْنَ فِعْلِهِ مَعَ الْفُسَّاقِ وَمَعَ الْعُدُولِ الصَّالِحِينَ، وَأَيْضًا فَإِنَّ الْفُسَّاقَ إذَا جَاهَدُوا فَهُمْ مُطِيعُونَ فِي ذَلِكَ كَمَا هُمْ مُطِيعُونَ لِلَّهِ فِي الصَّلَاةِ وَالصِّيَامِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ شَرَائِعِ الْإِسْلَامِ، وَأَيْضًا فَإِنَّ الْجِهَادَ ضَرْبٌ مِنْ الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنْ الْمُنْكَرِ، وَلَوْ رَأَيْنَا فَاسِقًا يَأْمُرُ بِمَعْرُوفٍ وَيَنْهَى عَنْ مُنْكَرٍ كَانَ عَلَيْنَا مُعَاوَنَتُهُ عَلَى ذَلِكَ، فَكَذَلِكَ الْجِهَادُ، فَاَللَّهُ تَعَالَى لَمْ يَخُصَّ بِفَرْضِ الْجِهَادِ الْعُدُولَ دُونَ الْفُسَّاقِ، فَإِذَا كَانَ الْفَرْضُ عَلَيْهِمْ وَاحِدًا لَمْ يَخْتَلِفْ حُكْمُ الْجِهَادِ مَعَ الْعُدُولِ، وَمَعَ الْفُسَّاقِ. اهـ.

.التفسير المأثور:

قال السيوطي:
{لَا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ أَنْ يُجَاهِدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ (44)}
أخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والنحاس في ناسخه عن ابن عباس رضي الله عنهما في قوله: {لا يستأذنك الذين يؤمنون بالله واليوم الآخر} الآيتين.
قال: هذا تفسير للمنافقين حين استأذنوا في القعود عن الجهاد بغير عذر، وعذر الله المؤمنين فقال: {فإذا استأذنوك لبعض شأنهم فأذن لمن شئت منهم}.
وأخرج أبو عبيد وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه والبيهقي في سننه عن ابن عباس رضي الله عنهما في قوله: {لا يستأذنك الذين يؤمنون بالله...} الآيتين.
قال: نسختها الآية التي في سورة النور {إنما المؤمنون الذي آمنوا بالله ورسوله} [النور: 62] إلى {إن الله غفور رحيم} [النور: 62] فجعل الله النبي صلى الله عليه وسلم بأعلى النظرين في ذلك، من غزا غزا في فضيلة ومن قعد قعد في غير حرج إن شاء الله. اهـ.

.فوائد لغوية وإعرابية:

قال السمين:
{لَا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ أَنْ يُجَاهِدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ (44)}
قوله تعالى: {أَن يُجَاهِدُواْ}: فيه وجهان:
أظهرهما: أنه متعلَّقُ الاستئذان، أي: لا يستأذنوك في الجهاد، بل يَمْضون فيه غير مترددين. والثاني: أن متعلق الاستئذان محذوف و{أن يُجاهدوا} مفعولٌ من أجله تقديره: لا يستأذنك المؤمنون في الخروج والقعودِ كراهةَ أن يُجاهدوا بل إذا أَمَرْتهم بشيءٍ بادروا إليه. اهـ.

.من لطائف وفوائد المفسرين:

من لطائف القشيري في الآية:
قال عليه الرحمة:
{لَا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ أَنْ يُجَاهِدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ (44)}
المخلصُ في عقده غيرُ مُؤثِرٍ شيئًا على أمره، ولا يدَّخر مستطاعًا في استفراغ وُسْعِه، وبَذْلِ جُهْدِه، ومقاساة كَدِّه، واستعمال جِدِّه. اهـ.

.تفسير الآية رقم (45):

قوله تعالى: {إِنَّمَا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَارْتَابَتْ قُلُوبُهُمْ فَهُمْ فِي رَيْبِهِمْ يَتَرَدَّدُونَ (45)}

.مناسبة الآية لما قبلها:

قال البقاعي:
ولما أخبر بالمتقين، عرف بغيرهم على وجه الحصر تأكيدًا لتحقيق صفة العلم بما أخبر به سبحانه، فصار الاستئذان منفيًا عن المؤمنين مرتين، فثبت للمنافقين على أبلغ وجه {إنما يستئذنك} أي في مثل ذلك فكيف بالاستئذان في التخلف! {الذين لا يؤمنون} أي يتجدد لهم إيمان {بالله} أي الملك الأعلى الذي له نهاية العظمة إيمانًا مستجمعًا للشرائط {واليوم الآخر} لأنهم لا يرجون ثوابًا ولا يخافون عقابًا وإن ادعوا ولما كانت هذه صفة المصارحين بالكفر، بين أن المراد المنافقون بقوله: {وارتابت قلوبهم} أي تابعت الوساوس وتعمدت المشي معها حتى تخلقت بالشك؛ ولما كان الشاك لا يزال يتجاذبه حسن الفطرة وسوء الوسوسة، قال: {فهم} أي فتسبب عن ذلك أنهم {في ريبهم يترددون} أي بين النفي والإثبات دأب المتحير لا يجزمون بشيء منهما وإن صدقوا أن الله موجود فإن المشركين يصدقون بذلك ولكنه لا ينفعهم للإخلال بشرطه، وليس استئذانهم في أن يجاهدوا لإرادة الجهاد بل توطئة لأن يقولوا إذا أمرتهم به: إنه لا عدة لنا في هذا الوقت فائذن لنا في التخلف حتى نستعد! وقد كذبوا، ما ذلك بهم، إنما بهم أنهم لا يريدون الخروج معك. اهـ.